نحن البشر في غالبنا نحنُّ للأيام الخوالي، ونردد دائماً "ما أجمل تلك الأيام... ليتها تعود" ونعلم أنَّ للكون نواميس وما مضى لن يعود أبداً...
وإن كان الآخرون كذلك فنحن السوريين لنا عليهم درجة، لما لقيناه من أهوال تشيب لها الرؤوس والقلوب.
وهذا ما حدانا لاجتراع الذكريات التي قد تحمل شيء من أمل، شيء من شجن، شيء من مؤاساة لجراحنا الغائرة... النازفة دوماً.
أتراها كانت جميلة تلك الأيام!
أم أن ذاكرتنا احتفظت بما هو جميل فقط!
أم هو الشباب الذي يغدو كل شيء معه جميلاً إذا ما تقدم بنا العمر!
الاختلاط في مدارس مدينتا "الرقة" بدأ تحديداً في عام 1986 ميلادية، ولن ادخل في باب تقييم هذه التجربة بما لها وما عليها، لكنني اذكر تماماً كيف ابتدأت الحكاية...
في يوم خميس كان ذلك؛ كنت متسللاً من المدرسة-بل لم أداوم حينها- وكان الدرس الأخير "تربية قومية" والمعلّم هو ذاته مدير المدرسة "خير الدين حقي" وكان لزاماً عليّ الحضور خشية من أن يفتقدني وتكون الكارثة!
برشاقة قط تسورت الجدار مستعيناً بالثقوب الصغيرة التي أحدثها المتسللون والهاربون من قبلي؛ وهبطت إلى الساحة من حيث لم يرني أحد...
رأيت جمهرة لتلامذة ومعلمين، تبين لي أنها لتسجيل أسماء التلاميذ الذين يرغبون بالانتقال إلى مدرسة جديدة لمن تقع مساكنهم غرب مدرستنا "أبي العلاء المعري" فقمت بتدوين اسمي دون أن اتحرى عن التفاصيل، من باب الفضول ربما!
صحبنا مدربا العسكرية "فاضل وعثمان" سيراً على الأقدام إلى مدرسة "الفارعة الشيبانية" والتي أصبحت لاحقاً "الشهيدة حميدة مصطفى الطاهر"
وصلنا؛ شيء لا يصدق!
أيعقل أن نخترق هذا السور العظيم الذي طالما نظرنا إليه بغموض ورغبة ورهبة!
هذا السور الذي خلفه كل الجمال؛ كل الدلال؛ كل الغموض؛ كل الأحلام...
فتح الباب العم أبو محمد ذو القسمات الحادة -اكتشفنا لاحقاً أنه طيب القلب لكن عمله كحارس على مدرسة بنات يتطلب منه هذه الصبغة- دخلنا...
كانت فرصة للمدرسة "فسحة"
تسمرت الفتيات وشخصن الأبصار إلينا بفضول وتساؤل!
مخرنا عُباب ذلك الموج الجميل إلى داخل المبنى ونحن نسير كالطواويس لكن الوجل دب في نفوسنا، والرهبة نالت مننا الشيء الكثير!
في المكاتب الأدارية كانت المديرة الوقورة "سعاد غانم" والموجه النبيل "طالب الأشقر"
دخلنا إلى الصف "الفصل" وتوزعنا على المقاعد وكانت الفتيات أكثر مننا عدداً بنسبة الضعفين على الأقل...
وكان المحاضر الأول المدرب الرائع؛ الرجل؛ دمث الأخلاق قوي الشكيمة بآن؛ المرحوم "ياسين حمزة"
تحدث لنا عن الأخوة والزمالة والعفة والتنافس...
ومع مرور الأيام لم نلحظ إلا ما قال؛ فكنا أخوة وأحبة تربطنا علاقات نبيلة وعفيفة مغلفة بالود والاحترام...
سر الأناقة: في اليوم التالي كان لا بد من تغيير في نظام الحياة...
بناءً على طلبي اشترت لي أمي رحمها الله "بدلة" جديدة وحذاءً أسوداً لامعاً وجورباً شديد البياض!!!
كانت "الموضة" هكذا!
تسريحة الشعر اختلفت، تناسق الألوان تغير، ومع كل صباح كان لا بد من الوقوف ملياً أمام المرآة وقبل المغادرة لا بد من "رشة عطر"
هو تصرف فطري لا شك منذ بدء الخليقة؛ هذه العلاقة بين شقي الحياة التي لا تستمر بدونهما...
نحن؛ والنصف الأجمل بالوجود!
أحلى أيام العمر كانت في أروقة هذه المدرسة...
سنين كثيرة مرت على تلك الأيام الخوالي...
عندما كنا "صبية يمرحون... عنان الحياة عليهم صبي"
كثير من الصور اندثرت في رماد الحرب والموت...
بقيت منقوشة في قاع الذاكرة وبتفاصيلها الصغيرة تلك الذكريات العذبة؛ البريئة...
مُدْرِسة الفلسفة الصارمة مريم جلب...
مدرس اللغة العربية الفذ إبراهيم الحمد... مدرس التاريخ المحبوب جمعة... ومدرس الجغرافيا الهادئ محمود عطيش... والآنسة نجوى السباعي مدرسة اللغة العربية... والموجهة الجميلة الراقية بلقيس الكلمد...
وغيرهم كثير من النجوم التي ترصع ذكرياتنا بالود والتبجيل والعلم..
كرة السلة التي لم أكن افارقها ولم تكن تفارقني... وما يرافقها من ذكريات حميمة...
الأحبة الرائعون : طلال العايد - عبد الهادي محمد - عبد الحنان شحاذة - عصام المطر - أحمد الشين - حسن التركان - محمد عوض - منديل - محمد أمين - مثنى المطر - محمد العايد - نضال الأسود... وكثيرون
وزميلاتنا... أخواتنا
آيڤيت - روض - مريم - فاطمة - ريم - زهرة - ندى - مها - سوسن - عبير - لينا - فيحاء - عفراء - أمية - جالدز... وكثيرات
يبدو أننا هرمنا حقاً.. وكثير مننا أصبحوا أجداداً ربما!
وستبقى أبداً ما حيينا تلك الأيام... أحلى الأيام.
بعد عقدين من الزمن حصل أن مررت على المدرسة ذاتها؛ وكانت المرة الأولى منذ أن غادرتها في نهاية العام الدراسي الأخير بعد استلام الوثائق المطلوبة...
استقبلتني ببشاشة وحفاوة في مكتبها المديرة الرائعة النبيلة "أم مضر" منار الصالح شقيقة صديقي "الباهي" وابنة صديق كل رقي "أبو الباهي" الشخصية الرقية الشهيرة والمميزة...
وددت حينها أن اتجول في أروقة المدرسة؛ أبحث عن وجوه؛ عن أماكن، عن ذكريات نسيها الزمن مختبئة في ركنٍ ما...
أنهيت العمل الذي جئت لأجله وغادرت...
وأنا أغادر...
حنين جارف اجتاح روحي المدنفة...
للأيام الخوالي، للوجوه، لصدى كلمات أصدقائي الذين كانوا؛ والذين انتشروا في جهات الأرض الأربع، الذين لن التقي بالكثير منهم للأبد؛ والتقيت ببعضهم بعد سنين؛ وعلى مفترق ألم!
لتلك اللحظة التي ولد فيها ذلك الشعور النبيل؛ الذي يعرفه كل ذي قلب ينبض...
عصفت بذاكرتي رائحة "أول مطرة" على ثرى القلب الناصع!
وتراءت لي خلف الضباب تلك البسمة الأولى من ذلك الثغر القرمزي البريء...
وأنا أغادر...
انتظر من يناديني همساً:
رويدك؛ فالقصة لم تنته بعد!!؟
علنا نعود إلى سيرتنا الأولى، نرتب ما تبعثر من تفاصيل، بل ونغير مسار الأحداث حتى!!!
وأنا أغادر...
يتباعد بي الركب المتهادي على الدرب المتعرج، الطويل...
تتلاشى كثير من الصور في زحام الزمن الرمادي المفجع...
وتبقى وحيدة؛ شامخة، شاخصة بعنفوان...
ومضة من نور في ليلٍ داج...
موطن الأسرار، ومرتع الصبا، ومربع الأحبة...
أرقب هناك خيالات لسنا نجمة بعيدة على أهداب المدى المعشوشب...
تلك التي أحبها... مدرستي.📍
إرسال تعليق