U3F1ZWV6ZTU1NzEyMjUxMjIxODg1X0ZyZWUzNTE0ODEwNTU1NzIzOQ==

جمعة رمضان الدبيس - حدث هناك في مركب الحصان ..

 الأول من يوليو تموز عام 1977ميلادية, هناك في مكان قصي من هذه المعمورة...  

جمعة دبيس العنزي
انتهى للتو موسم الحصاد, الخير يعم الجميع وأكداس القمح (استوكات) ما تزال قابعة في قرية (مركب الحصان)...
ليس أجمل من جلسة ود برفقة الأحبة على تلك (استوكات) في سويعات الأصيل ومراقبة القرية من علٍ. 

سمعت إحدى الفتيات تدندن (وبأول شهر سبعة... تخافقن التكاسي) ماذا يعني هذا؟ الكثير من الفرح... الكثير من السعادة, عودة المغتربين من أبناء القرية الذين هاجروا إلى الخليج والجزيرة العربية حيث موطن الأجداد الأوائل و (النفط) هؤلاء الذين كنّا نخالهم قادمون من كوكب آخر, وكيف لا نفعل! سيارة (شيفرولية) كابريس طويلة جداً وفارهة لحد الترف, أو (بيوك) وربما (ناتيت) وأحياناً (ددسن) رائحة السيارة من الداخل تشم الأنوف وقد تدلى من مرآتها مصدر الرائحة الزكية؛ كرتون على شكل زورق أزرق اللون, سجائر (المارلبورو) الفاخرة, وأحياناً (المور) التي بطعم النعناع كما يتحدث الكبار, والتي لا تقارن بـ (تتن الغازي) المعتاد, ولا بالـ (الحمراء) التي لا تتوافر على كل حال, وماذا بعد؟ حلوى (الماكنتوش) التي لم نكن نعرف اسمها, في علب أنيقة مزخرفة, عصير (راوخ) اللذيذ, أشرطة كاسيت لفنانين نحبهم (حجاب) و(بطي البذالي) و(بنيان) و(خلف العتيبي) سعيد من يحظى بأحد تلك الأشرطة, ولو بطريق السرقة.

كم تختلف تلك السيارات الرائعة عن (بوسطة حماصي) التي هي عبارة عن صندوق حديدي ذو عجلات, تلك التي نذهب بها إلى الرقة إن تسنى لنا ذلك, مرة أو مرتين على الأكثر في السنة, لزيارة الطبيب, أو لالتقاط صورة (على الماء) للتسجيل في المدرسة, وليس هناك سبب ثالث, تلك (البوسطة) تختلف كذلك عن البوسطة التي تغنت بها فيروز (ع هدير البوسطة... الـــ كانت نائلتنا... من ضيعة حملايا على ضيعة تنورين... 

تذكرتك يا عليا... وتذكرت عيونك... يخرب بيت عيوووونك يا عليا يا عليا... عليا شو حلوين) رافقت والدي في الخريف الفائت وحظيت بفرصة الصعود على متن (البوسطة) لم أشاهد عليا... ولا عيونها الحلوة, شاهدت (زليخة الكردية) ولم يتسن لي رؤية عينيها حتى, لأنها كانت نائمة طوال الطريق.

يجتمع أهالي القرية لسماع أخبار الأحبة, نتلقف كل كلمة يقولها الضيف العزيز, كيف انطلقوا من الكويت, أو الرياض, أو المنامة, وربما الدوحة, نرسم صورة ذهبية لتلك الآماكن, كيف عبروا الحدود, وماذا حدث في الجوازت! (فندق السويلم) وفندق (المدوّح) (الحديثة) (الأزرق)... مروراً بدمشق فحلب, مواقف عادية كنا نراها حكايات غريبة وممتعة ونتلذذ بتكرارها من الأحبة العائدون.

 نَسمر طويلاً تلك الليلة, يسترجع الكبار ذكرياتهم التي كانت, يتحدثون عن مقالب (محمد المخيلف) مع خالي (فهد) وكيف يدفع به لاعتلاء (القبة) بزعم وجود عصافير, ثم يسحب السلم الخشبي عنه ويدعه معلقاً في الأعلى وعرضه لأحجار (أمي زعيله) – هي جدتي - التي تخشى أن يلحق الضرر بالمنزل.                                                     

(أبوي إبراهيم) – جدي - يجلس بوقار في وسط (الدكة) يدير مفتاح الراديو الخشبي الكبير ليستمع لأخبار الــ BBC  أو بادية الكويت, وقد يدخّن الأركيلة أحياناً.
في صباح اليوم التالي تكسد بضاعة (البياييع) الذين يعودوننا كل بضعة أسابيع بعرباتهم التي تجرها الخيول, (أبو الذيب, القراطي, محمد السوّادي، نعسان) لا مكان لقلائد التين ومسابيح (الدروبس) و(الغريبة) و(البرازق) أمام السكاكر الفاخرة القادمة من بعيد.                           

كما أن المصائب لا تأتي فرادى, كذلك أيام الحبور, فبعد أيامٍ قلائل ننتظر مناسبة سعيدة, عرس في (مغار) حيث سيجتمع الناس ويفرحون و(يدحّون) وتعقد الولائم ويعم السرور الجميع.

مع إشراقة الشمس من جهة (الثامرية) تشاهد قطعان الأغنام في بقايا محاصيل الحنطة والشعير (الفراز) ويتناهى إلى الأسماع في سكون الصباح زقزقة عصافير, وثغاء شاة, ونباح متقطع لكلب, وتنسحب بهدوء غيمة بيضاء على أطراف الأفق البعيد...                                             

اعتلي (رجم فهيد) الواقع على هضبة جنوب شرق القرية, أراقب المكان وأجول ببصري في أرجاء الفضاء المحيط, إلى الشرق ينتهي بصري عند (مقبرة الشارة) والثامرية, وإلى الشمال الشرقي بالإمكان مشاهدة قرية (المغارة وكولاح وبيت جدعان البرجس وحيداً) إلى الشمال قرية أبو راشد (الراوي العبيسي) وخلفها بعيداً قرى الأكراد الغامضة (أبو جلود وحمتوبك)... في الغرب تماماً (قرية مغار) القابعة على سفح جبل, وإذا ما اتجهت إلى الجنوب الغربي أشاهد قرية (المستريحة) الواقعة في سهل منبسط والتي تبدو قريبة إلى حدٍ ما, في الجنوب تتراءى لي عن بعد مشارف بيوت قرية (الديادا).

لا جديد, مشهد يتكرر كل يوم, الأمل المجهول هو الشيء الوحيد المتجدد...
يعود الرعاة قبيل الظهيرة لحلول وقت (حلبة الصبح) أنا لا أملك أغناماً حينها, قد يحصل أن نملك شويهات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة, وتختفي بعد حين,لا أملك حماراً, ولا حتى عصا أهش بها على غنمي التي لم تأت بعد.

أغفل راجعاً إلى البيت لتناول ما تيسر, خبز وخاثر, وبيض ربما وليس على كل حال, أذهب شمالاً للهو مع أصدقائي (إسماعيل الدخين) وأحياناً مع (ممدوح المرفوع) الذي أخاصمه كل حين لطبيعته العدوانية ومزاجه الحاد حتى أن البعض ينعته بصفة (موذي)... كبرنا فتجلى لي معدنه الطيب, وشهامته, وكرم نفسه.           
 
في أطراف القرية منزل صديقي الهادئ (حسين الخلوف) أذهب إليه للاستماع إلى المذياع ومعرفة أخبار كرة القدم وتجاذب أطراف الحديث, هو ودود ومثقف حقاً... أنام في إحدى الحجر الصغيرة دون تخطيط مسبق, هو التعب لا شك قد نال من جسدي النحيل, استيقظ بعد حين... هدوء يلف المكان إلى درجة الوحشة, قد يكون (ضجيج السكون) هو من أيقظن لا أحد في القرية, أين ذهب الجميع؛ اتساءل؟

انا ازداد المكان وحشة مع ابتعاد أصوات سرب من القطا مر من هنا, وازددتُ حيرة!
قطع السكون صوت العمة الطيبة (أم يوسف):
- (أنت هنيّا يا وليدي كلهم راحوا...)
- (وين؟)
– (للعرس بمغار... ما تدري!)
لم أجبها, فقد تحشرجت الكلمات في صدري, وكادت أن تطفر من عينيّ دمعة لولا كبرياء تصنعتها, انطلقت لعل القادم خيراً...
لم أسمع كلمات أم يوسف وأنا ابتعد, قد تكون نصحتني بالبقاء على أمل أن تمر سيارة تقلني إلى هناك, وهو احتمال يكاد يكون مستحيلاً, وقد تكون سألتني فيما إن كنت جائعاً, آخر ما لمحته في عينيها نظرة إشفاق ومودة. 

كان عليّ الذهاب ولكن كيف؟ قد يستغرق الطريق سيراً على الأقدام زمناً طويلاً بحيث يحل المساء وما يتبع ذلك من مخاطر, حقيقية تارة, وأتخيلها تارة أخرى...
شاهدت حصاناً في أطراف القرية, لا أعرف صاحبه, هو ذا الحل, أن امتطيه واذهب وعندما أصل وجهتي اتركه يعود لصاحبه في القرية...

شرب الجواد (من الخبرا) وكذلك فعلت, هي بحيرة صغيرة إن صح التعبير تشكلت من مياه الأمطار وملتقى سيلان الأودية الصغيرة, تقع في الجهة الشمالية الغربية من القرية, لاشك أن مياه (الخبرا ) لو خضعت لتحاليل مخابر الصحة لكانت النتيجة (غير صالح للاستهلاك البشري) لا
يعلمون أنني قمت (بتصفية) الشوائب بأطراف إزاري الذي لم يكن أقل تلوثاً..
كان من السهل عليّ أن امتطي هذا الجواد وإن كنت صغيراً حينها, ذلك أنني فعلت ذلك مراراً وأنا أصغر سناً. (مسعود) جواد حالك السواد, أغر, كان والدي يصفه بالأدهم, ارتسمت صورته في ذاكرتي أبداً ولم تنسنيه السنين, كنت أرافق والدي مع (مسعود), لا أعلم وجهتنا حينها, ولا يهمني ذلك, أن أركب مزهوّاً واربت على
معارف (مسعود) صديقي هذا هو المهم, قد لا يكون من الخيل المسوّمة, لكنني أحبه, وهمهمته  لا تزال بالذاكرة  تداعب مسامعي إلى اليوم..
بعد سنين... كنت أشاهد أحد أفلام (الكاوبوي) المفضلة لدي, قطيع من الجياد تقطع فلاة وهي تعدو مسرعة يتقدمها حصان أسود أغر, أغرورغت عينا والدي بالدموع وأشاح بوجهه عني,  غادر المكان وبصعوبة استطعت أن اسمع منه كلمة: مسعود,؛ إنه الحنين.
سلكت الدرب الترابي الطويل المتجه غرباً, تناوبتني مشاعر مختلفة, إحساس بالإثم لأنني تجاوزت على ما لا أملك, ودافع قوي لتحقيق رغبه أراها تلبي شيء من طموحاتي وأحلامي الصغيرة, وشوق للمغامرة التي قد تكون.

 كبرنا, وتبدلت أحوال الناس, وعرفنا شيء مما يسمى الحضارة, أدركنا أن العالم كبير حدوده واسعة, وأن للحياة أوجه مختلفة, تعلمنا أشياء وأشياء, تبدلت العادات, والطبائع, اتسعت آفاق الأماني وابتعدنا في أحلامنا التي كانت صغيرة مثلنا, حدود العالم لم تكن حدود الأفق الذي نراه بأعيننا, والكائنات لم تكن فقط الحصان مسعود, وقطعان الماشية, وبعض السحالي التي كنا نشاهدها في الأراضي الخَرِبة, وصغار العقارب التي كنا نستخرجها أنا و(ممدوح المرفوع و اسماعيل الدخين) عن طريق سكب المياه في جحورها, ثم نقتسم الغنيمة وممدوح يردد (قَسم وفلاح)!
يممت غرباً؛ وسرت على الدرب الطويل...📍
...
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق