فاروق القاسم صاحب صوت الإعلان عن برنامج الإتجاه المعاكس الذي يقدمه الصحفي السوري "فيصل القاسم" على قناة الجزيرة يرثي والده بكلمات حزينه ..
فاروق القاسم :
مواقف في حضرة الوالد المرحوم
في عام 1969 كان عمري ستة أعوام فقط،، كان المرحوم والدي في خدمة الإحتياط العسكرية،، كان الوقت صيفا،، أرسلتني والدتي الغالية أم فيصل مع أخي سعود ،، الذي يصغرني بحوالي عام ونصف العام ،، للرعي بالبقرة،، خلف الحصادة الآلة،، التي تحصد الحنطة ، القمح على طريق الضيعة السويداء،، في أرض تُسمّى " حناني " وللعلم ان الولد في ذاك الزمن بهذا العمر،، كان شاباً يتحمّل المسؤولية ويعتمد الاهل عليه كلياً بمساعدتهم بإدارة شؤون الأسرة،، ومن عاصر ذاك الزمن يُدرك ذلك جيداً،،
فكنت ألحق الحصادة من الجنوب نحو الشمال،، وأجمع خلالها،،" الخصاب " وهو ما تتركه الآلة خلفها،، من سنابل وقصل وغيره،، ملأت ُ " الخيشة " وهي وعاء لنقل التبن عادة ً من البيدر الى التبّان،، خلال هذا كان أخي سعود يلهو باللعب ،، وأحياناً يساعدني بجمع الخصاب،، عندما امتلأت الخيشة،، هاجمني رجلان إثنان من الرعيان ،، وحاولا أخذ الخيشة بالقوة،، ،، وعندما حاولت منعهما بكل الوسائل بالصراخ،، ونحن نبعد عن القرية شرقا ما لا يقل عن خمسة كيلو متر،، ضربني أحدهم بعصا كانت بيده تُدعى " الدبسة " فأُغمي عليّ،، وآخر كلمة سمعتها من رفيقه: " له له قتلته يا علي " ،،،
سرقا الخيشة وهربا،، في هذه الأثناء،، ركض أخي سعود نحو القرية،، وأبلغ الوالدة الغالية،، ووالدتي بدورها هُرعت كالملسوعة تُخبر عمومتي،، استقلوا جميعهم جراراً زراعيّا ووصلوا الى الأرض بحالة هيستيرية ،، وخاصةً والدتي العظيمة ام فيصل،، التي وصلت تولول وتصرخ،، ضمتني وهي تبكي ،، كنت حينها قد استعدت ُ شيئا من الوعي،، بعد أن صبّوا عليّ الماء،، وما زال أثر ُ الضربة واضحا مدى الحياة في أعلى رأسي من الجهة اليُسرى،، زمن لم يكن فيه أي ُ نوع ٍ من وسائل الاتصال،،، عدنا جميعا ً الى الضيعة ،، بعدها بيومين تماما جاء الوالد المرحوم بإجازة مبيت مدتها 48 ساعة،، يحمل بارودة ،، البندقية التشيكية،، وهي قبل الروسية آنذاك،،، علم بما حدث،، رحمة ُ الله على روحه الطاهرة،، لم تسعه الأرض،، وصل مساءً،، وفي الصباح الباكر أخذني الى المدينة ومُحياه يعتريه الغضب الشديد،، وصلنا المستشفى،، وهناك كالعادة،، شاهد الكيل بمكيالين ،، إذ دخل الى الطبيب اناس كثر قبلنا،، وهو يمشي في الكوريدور ،، ذهابا واياباً،، بطريقة عصبية جداً،، لم أكن أدرك ماهيّة غلاوة " الضنى " على الآباء،، والله العظيم لا أبالغ،، انه حينها كان بمقدرته قتال عشرة رجال،، لقد حباهُ اللهُ عز وجل قوّة ً نادرة،، شاهدتها في الحقل وحمل الصخور والباطون وأكياس القمح وغيرها كثير،،،
المهم،، نفد صبره انتظارا أكثر من ساعتين أمام غرفة الطبيب آنذاك،، لا أدري كيف دخل غرفة الطبيب،، بعنف فقال له الطبيب انتظر خارجاً حتى يأتي دورُك،، ورحمة اللهُ عليه كان يعلم ان عددا كبيرا من المرضى دخل قبلنا بغير حق،، عندما طلب منه الطبيب ذلك،، لا أدري ماذا حصل،، وكيف ان والدي مسكه من روب المستشفى الأبيض وأرداه أرضاً كالصاعقة،،، وعنفّه بطريقة تليق بمن لا يحترم البشر،،، والله شاهدت بأم عيني،، كيف ان اكثر من خمسة رجال قد فشلوا بالسيطرة عليه،، وأذكر انه رحمة اللهُ عليه،، قال للطبيب،، لو أن هذا الولد ابنك ماذا فعلت؟؟ ابني طفل تعرّض للقتل منذ يومين ،، وانا في إجازة قصيرة جدا،، أريد الإطمئنان عليه قبل الإلتحاق بالقطعة العسكرية،، بعد ذلك جاء مدير المستشفى واستمع لكل شيء،، ووالله لو كان هناك جيش امام والدي لما خشيه،، عرف المدير كل شيء وفوراً طلب لي صورة أشعة،، والحمد لله تبيّن أنها خارجيّة،،،
عدنا الى الضيعة،، وفي الصباح الباكر حمل البندقية،، وأخذني معه الى الأرض التي تعرّضت فيها للأذى على يد الرعيان،، مشينا اكثر من عشرة كيلو متر،، فوق موقع شرقا يُسمّى " تل الحديد " وهو موقع مشهور ،، أسقط فيه الثوار في معارك الثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي عام 1925 طائرة للفرنسيين،، بمعركة شرسة تُدعى تاريخيا " معركة تل الحديد " كبّد فيها الثوار الفرنسيين خسائر فادحة بالأرواح والمعدات،، كان المرحوم يبحث عن الراعيين اللذين ضرباني،، كان الشرر يخرج من عينيه،،، طبعا لم نجد أحداً منهما،،
كان رحمة ُ اللهُ عليه يعشق الحق،، يكره الظلم،، تولاه اللهُ وهو يقول: يا أولاد،، ناموا مظلومين ولا تناموا ظالمين،، لم يستثمر قوته البدنية الا لكسب لُقمة العيش الحلال،،
في أحد المرات وخلال ورشات العمل،، كان هناك رجل عضلاته مفتولة،، وكان يستمزجُ قدرة باقي الرجال،، حاول مرةً ان يحتك بوالدي المرحوم ،، تمنّى لو أن الأرض انشقت وبلعته ،، أرداه والدي أرضاً بثوانٍ،، وكان رحمة اللهُ عليه يردد " فرس الباغي عثور " …
عاش والدي المرحوم 84 عاما،، حمل في شبابه خلالها الصخور وأكياس الحبوب ،، والباطون وغيرها،، باحثاً عن رزق الحلال لأسرته،، وكما ذكرت سابقا أنه في عام 1972 حصد وحده في قرية الطيري المتاخمة شمالا لقريتنا،، حصد 264 دونما من الأرض،، وما زال أهل ُ الضيعة يقولون حتى الان : إنَّ ما فعله أبو فيصل مؤيد القاسم آنذاك لم يفعله الزيناتي،، لم يعرف النوم الا سويعات قليلة،،
قبل وفاته بيومين رحمة اللهُ على روحه الطاهرة،، أُجريت له تحاليل طبية شاملة،، وأبلغ الطبيب أخي الوفي محجوب الذي كان يُلازمه دائماً،، بأن تحاليله هي تحاليل شاب ابن عشرين عاماً،، لم يُعان ِ رحمه اللهُ لا من السكر ولا الضغط،، ورغم كل ما حمله بحياته على ظهره من أثقال،، فانه بفضل اللهُ لم يشكُ بحياته من مرض " الديسك " او أي آلام في الظهر،،
حتى لم تظهر أي ُ تجاعيد في وجهه،، لم يذق والدي الكحول بحياته ولم يعرف السيجارة،، عاش زاهدا مُكافحا شريفاً صابراً موحّداً ،،
سنفتقدك يا والدي العظيم،، يا صاحب َ الطلّة ِ والبهيّة ِ اليوسُفية،،
راجين المولى عزَّ وجل أن نبقى على عهدك الأمين
فاروق مؤيد القاسم
لندن
إرسال تعليق